نتأمل، نقبل، فنتخفف..
قرأت مرة، أن الحقيقة; شيء يرن في صدرك، ويستغربه عقلك، فكيف تأمرت مع فضولي المحض لكي أراه؟

أهلا وسهلا ومرحبًا يا رفيق،

أُكمل هذا العدد اليوم من مطار جدة، تحت تأثير أيام من العيون الفضولية، والابتسامات المندهشة..
في زحامٍ لا يهدأ، مُحاطةً بأسراب حمامٍ أسابقها على حباتِ حمص، بين نظرات المارة، وعظمة شعور رؤية غار حِراء لأول مرة، وأدعية بقلب غني لا يمل، والكثير الكثير من القصص مع غرباء من لغات مختلفة!
نادتني مكة واستجبت، والحمد لله أني استجبت…
اعتدت أن أزور مكة على عجل،
فاخترت أن أبقى هذه المرة وحدي، بعد عمرةٍ سَلِسَلة مع رفيقٍ رائع، لأبصر ما حولي فقط…
أثرَتني "غريزة البقاء" عند هذا الإنسان الذي لن أفهمه ما حييت؛ كيف يواجه ضعفه، ويقبل خضوعه، ثم يقتلع حقوقه فجأة، ويختبر صبره، يذوب في شقائه وهلعه الذي يذكّرك بيوم الحشر، وكيف يعلق في الحاجات الأولى من سلم ماسلو الهرمي للاحتياجات كلما قلّت رفاهيته،
شرسٌ على حقه، وبسيط في احتياجه، ومندفع في عطائه، كأن لا شيء يهم سوى النجاة في تلك اللحظة؛ رجل بفطرته المحضة يحمي نساءه، وأخ يحيط أخواته، شاب يحمل والديه، عيون أطفال متلهفة، فتيات جميلات بلا زينة تحت جناح آبائهن، بائع يمد بضاعته البسيطة بأرخص الأثمان، صلاة على الرصيف، وأرواح مستغلة بأيدي مقطوعة، ودعوات جماعية لجماعات يميّزها حقيبة، أو لون، خوفًا من الضياع!
غمرني فجأة شعوري في منتصف دعاء الجمعة، فأخذت أبحث حولي عن ورقة أنفض بها كلماتي، حتى ناولتني خالة باسم "هالة" كتاب تفسير القرآن وهي ضاحكة: «وين تلاقين ورقة هنا يا بنتي! تفضلي اكتبي بيه، وادعي لي كل ما تعلمتِ منه تفسير آية».
مكة عظيمة، تجرد الإنسان من كل ما اعتاده، تعيدك لأساسيات الحياة، تُثريك، تبقى أنت وبشريتك وحاجتك إلى النجاة، والتسليم!
قررت أن أكمل هذا العدد بعد عودتي؛ لأبرر به حاجتي إلى الورقة المسكينة، ولندعو للخالة هالة معًا…

فكر معي يا رفيق،
أتجد نفسك ممسكًا بنعم الله التي لا يلحظها الكثير؟ كأنك المحظوظ الوحيد برؤيتها؟
أهديك اليوم أداة لنحمد الله عليها سويًا، تكفيك لتتخفف، وتمكنك لتلحظ أبعادك وتتعايش معها، أو تغيرها، بحب يغمر هذه الأرض بمن فيها، تستفتي بها قلبك، وتصدق حدسك اللامنطقي دائمًا…
ثم تقفز برشاقة الاختيار بينهما، وتستمتع بالتجليات…
قرأت مرة، أن الحقيقة شيء يرن في صدرك، ويستغربه عقلك.. فكيف تأمرت مع فضولي المحض لكي أراه؟
في لغتنا العامية، يمكن أن نُطلق على هذه الرنّة؛ حدس، قلق، تساؤل، قرصة قلب، يقين، ضياع أو ننعتها باسمها العاري «حقيقة»!
هكذا فطرتنا نحن البشر، لا نأمن ضجيج دواخلنا.. حتى نتواجه، ونتزن، وندرك امتلاكنا لفكرة الاختيار، وسلاسة التخفف والقبول..
نهرب طواعية من كل ما يُلاشي طبقات ما قَبلَ حقيقتنا.. مهامنا المعلقة، أو شعورنا المؤجل، فنجد أنفسنا منغمسين بالواقع المحيط، ثم نتشتت أكثر بلا إدراك...
لعلنا بجهلنا، لم نعي كيف ينقذنا القَبُول، وينقلنا لأبعاد جديدة، وقصصٍ أجمل، لم نتخيلها يومًا..
قال: اكتب. فقال: يا ربِّ وما أكتبُ؟ قال: اكتب القدرَ ما هو كائنٌ من ذلك إلى قيامِ الساعةعُرفت بالفضول كالأطفال والجدات مخلوطين معًا. لكني قَبلتُ مؤخرًا ماهيتي التي لم انجح يومًا بإخفائها، أهذبها بصمتي فتفيض من عيوني وملامحي العنيدة، التي تحمل في كل مرة الكثير من «ليش؟، ما فهمت، ما اقتنعت،وش السبب؟؟ شلون؟»
ثم أقنعتني الحياة بدفاشتها أن الإجابة لن تكون كافية أبدا. فاخترت أن أبحث مستخدمةً الكتابة..
أعترف أنها آداة للشجعان فقط يا رفيق،
لذلك إن كنت لا تتحمل أن تعترف أمام نفسك، أو لا تعبر عن بهجتك وحبك بخفه، فتجاهلني ولا تكمل هذا العدد..
في الطريق.. جردت الكتابة ضجتي، وصالحت صمتي، وطبطبت على أفكاري المبعثرة، أو زادتها سوءًا أحيانًا،
أعرف اني كنت أحاول أن أحافظ على النور متقدًا في قلبي لا أكثر
تهذّبَ ما حولي، و اتسقتُ أنا.. فتعلمنا كيف نرقص معًا بخفة، ثم انتقلت بهذا القلم من مسار مجهولٍ لآخر.
قد يعرّيك استعراض مافي عقلك أمام نفسك، أو يطل الوعي على اللب في داخلك، أو قد يستفزك، أو يرغمك أن تبصر ما لم ترغب في فهمه إن لم تكن مجبرًا..
اتبع قلبك، أعدك أنك ستجد طريقتك الخاصة بوقتك المناسب..

تعرف الحوار الثقيل اللي تختار تخوضه مع شخص في لحظة طفح الكيل شجاعة؟
تخيل أن تملك رفاهية عيشه في ورقة وقلم!
تخيل أنك ضامن خروجك بعده بنسخة أفضل، وعلاقة أجمل مع ذاتك.
بعد القليل من الدموع، والمقاومة والكِبر البشري الطبيعي، أو بعض الضحكات المستنكِرَة، ولحظات الإدراك المفاجئة، أو في الايام المنحوسة، حاملًا الكثير من البعثرة.. اللي ممكن تغرقك أكثر..
لكن ثِق بي، ستنجو بإجابات تنقلك سنوات ضوئية، واعيًا وخفيفًا كالطير مع الوقت..
فأنت الدليل، والقصة منك وفيك، وتنتمي إليك!

اكتب فقط.. جرب طريقتك الخاصة، هنا آلية اتبعتُها، لعلها تدلك لخطوة بدايةـــ..
في عام 2020 كُسرت قدمي، أكتبها وأنا أضحك اليوم، على الرغم من درامية أيامي بوقتها. وبقيت سنةً كاملة بقدم معطوبة. وكرسي بارد والكثير من المشاعر والطاقة المقموعة،
سكون لم أعتد عليه بهذه الطريقة المجبرة، لم أتمكن وقتها من استخدام لعبتي التي اعتدت، بالركض مع الحياة، فاض قلبي، وظهرت على السطح كلاكيعيي…
هنا بدأت قصتي مع الكتابة... كنت أعتقد أني ألعب، لم أعلم أني تخففت، وصُقِلت، وتهذبت… لم أفهم ذلك حتى عندما كنت أحفظ أول سورة نزلت في القرآن، في عمر الخامسة;
"اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ" فقرأ حتى بلغ "عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ"
أكتب يا رفيق، حتى يتجرد كل شيء من أصله، فأكشف الشعور، ثم مغزى الفكرة وراء الشعور، ثم جذر المغزى، ثم اختر أن تقبله بلا أحكام، فيُحل..
اكتب كل صباح، بلا هيكلة واضحة، هنا كيف أكتب*
أبدأ يومي عادة عيني بعين الشعور، أنثر قشور الأفكار على الطاولة، أكتبها بدون ترتيب. أفرغ ما فيه، ثم أتخلص بعد ذلك من الأوراق بشكل كامل، لأمضي خفيفة..
من الطبيعي أن تختلط الأصوات، وأن يحصل خلال الكتابة حوار أو تناقضات. لا تحكم فقط اكتب…
قَبُول ما تلتزم، اكتب كلما شعرت بالرغبة بالبداية...
أنا كنت أكتب يوميًا، واليوم اكتب من فترة لأخرى. إقبل بشريتك وعد كل مره تشعر أن الوقت يناسبك.
اختر أن تقبل الكلمات على الورق.
علمتني الكتابة أن هناك خيط رفيع بين الاختيار والانغماس..
عندما ننغمس نشتري الواقع بكل ما فيه، أما عندما نملك المعرفة ونحمل مسؤولية الاختيار. نسعى لما يخلق لنا إمكانيات أعظم، تذكر أنك تملك الخيار دائمًا.
اقبل كل الكلمات، بشعة كانت أو رائعة.. وفر هذه المساحة لنفسك لتأمن وتتكشف..
أو كما أنصح أخوتي دائمًا «عامل نفسك كأنك أكثر شخص تحبه بالحياة» إلتمس العذر في كل مره تحظر كلمات قاسية، اقبل وجودها وتعامل مع السبب ورائها.
اسمح إنك تتساءل، وتفاءل بالنهايات، الضياع بداية نجاة.
عامل نفسك وكأنك نجيت، لا تقرأ وكأنك ضحية.
كل الكلمات على الورق أصلها بداخلك، بعضها صدقتها عندما كررها عليك الأخرون، وبعضها اعتقادات منك بعد خيبات كثيرة بينك وبينك.. وبعضها نقاط قوة ما حصلت الفرصة تأشر عليها في داخلك.
مع الوقت، والكثير من الأوراق والأيام ستلحظ أنماط متكررة وكلاكيع روتينية، تلَمّح فيها الندوب..
-- هنا تظهر تحدياتك، افهمها، وحلها..
تذكر يا رفيق،
أن ندوبنا هي الشواهد الحية على العاطفة الصادقة التي حملناها لسنوات،
و شعورنا بأفكارنا وأجسادنا وأرواحنا إن أهملنا الصدق معها، خانتنا بأول مثير، لفتًا للانتباه.
كل مرة أفكر بالحتميات التي لا أظن أن أحداً نجا منها يومًا، أظنني أعرف الدرس العظيم الذي قادتني إليه الكتابة.. ذلك أن كل شيء.. كل شيء! موجود لسبب وبسبب، فلا وجود للصدفة..
اكتب بصدق، إذا بدأت بنفسك وأكرمتها بالفِهم، أكرمتك!
ثم تجلت بعد ذلك، قصتك التي تشبهك، وتليق بك.
الحرية الأولى التي لطالما ملكناها ومدى الأزمان سنمتلكها كناضجين، هي حرية اختيار كتابة قصة جديدة، تناسبنا، وتشبهنا، اسع فقط بجسارة لتفهم، وعش قصتك التي تختار..
أعطيك سر؟ الثقة بينك وبين نفسك لا تبنى بالكلمات، ولا نقدر نمثلها. نخلقها بالأفعال اليوميه الصغيرة تجاه أنفسنا، وتظهر علينا ما تحتاج مجهود، إذا في داخلك نور ما تقدر تخبيه حتى على نفسك، يظهر..

نوف حكيم هنا شرحت آلية الكتابة بأفضل صورها.
أقرأ هذا الشهر كتاب السماح بالرحيل.
اسمع اليوم ماجدة الرومي - أنا عم بحلم.
لا تتردد لو عندك رغبة تشاركني أفكارك عن هذا العدد
لا تنسى تدعي لخالة هالة، ولي..

غاية النشرة أن «تتمكّن، فتمكن ما حولك» أن أنير شيئًا بسيطًا من القصة «بينك وبينك». لن تجد بين كلماتي قوالب جامدة; هنا كل شيء حي، ويستحق التأمل.